لدي إعتقاد شخصي أن كثير من الفضل فيما وصلت إليه الحضارة الإنسانية في هذا العصر يعود لنشاطين إثنين وهما التواصل البشري الفعال والخلوة مع الذات، التواصل البشري الفعال أقصد به جميع أشكال التواصل البشري التي تكون مبنية على الإحترام وحسن الظن، وإختياري لهذين العنصرين لأن تواصل أي شخصين في غياب الإحترام أو وجود سوء الظن سيؤدي إما إلى عدم الإنصات أو محاولة تفسير الكلام أو الإشارة بغير ما أراد الشخص مما يؤدي إلى عدم الإستفادة القصوى من هذا التواصل. وما أقصده بالخلوة مع الذات أن بعد أي تفاعل بشري يحتاج الشخص للخلوة مع نفسه للتفكير والتدبر فيما وصله من معلومات أو أفكار مما سيؤدي إما إلى فكرة أخرى أو فعل آخر ينفع البشرية -أو يضرها-.
الغريب في الأمر، أننا في هذا العصر ونحن في قمة الحضارة البشرية – أو هكذا نظن على الأقل – بنمط الحياة الحالي ومع مئات الملايين أو مليارات من البشر على مواقع التواصل الإجتماعي نكاد نخسر الإثنين معاً، نظرة سريعة على النقاشات في تويتر أو ما ينشره الغالبية من الناس على انستجرام أو سناب شات أو تعليقات اليوتيوب مثلاً نجد أنه يوجد تواصل بشري غير فعال – أو سلبي – في كثير من الأحيان، فلا الهدف منه تبادل الأفكار والآراء ومحاولة التعلم من الآخر بل على العكس، فأساسه محاولة الترويج والتسويق للذات والتقليل من الآخر أو تشويه فكره والطعن في نواياه – التي لا يعلمها حقاً إلا الله. وبالطبع فيما يخص الخلوة مع الذات، فلا يخفى على الجميع كيف أن الغالبية العظمى من الناس ما أن يجد نفسه لوحده حتى يهرب إلى هاتفه يقلب بين الشبكات “الإجتماعية” خوفاً من الخلوة مع نفسه ولو لدقائق معدودة.
أعلم أن الحضارة البشرية وصلت لما وصلت إليه بفضل قلة من الأشخاص في كل زمان وأمة هم من يعول عليهم، ومما يدعو للتفاؤل أنه في الفترة الأخيرة هناك الكثير من الأصوات التي تدعو إلى الإستخدام الواعي للشبكات الإجتماعية وتدعو الناس لقضاء المزيد من الوقت بعيداً عن الشبكات الإجتماعية فيما يمكن أن يكون خلوة مع الذات.
الخلوة مع الذات لا تعني الخلوة الفعلية في غرفة أو مكان ناء، بل من الممكن أن تكون في مكان مزدحم ولكن المهم أن تكون منغمس مع نفسك تراجع أفكارك وتقلبها يمنة ويسرة، فقد تكون على شكل نصف ساعة مثلاً في ممشى الحي أو على شاطيء البحر، أو قد تكون مع فنجان من القهوة الشقراء أو كوب من القهوة السوداء أو كأس صغير الحجم من الكورتادو في مقهى محلي هادئ أو في وسط مول تجاري ضخم، أحياناً قد تكون تحت الدش أو على مقعد الحمام – أعزكم الله – إذا تركت الجوال في الخارج.
وبالحديث عن خلوة الحمام أذكر صديقاً ونحن نعمل على أحد المشاريع كلما واجهتنا معضلة كنا نتوقف عن العمل لبرهة وبعد أن يذهب للحمام -أجلكم الله- يخرج وقد أتى بالحل الذي لم يخطر لنا على بال طيلة المناقشة، وبالرغم من أن الموضوع مضحك فالتفسير الوحيد الذي خطر على بالي أن الخلوة مع الذات -ولو لمدة قصيرة- لمعالجة المعلومات التي امتلأ بها الدماغ جراء التواصل البشري الفعال تؤتي ثمارها فعلاً.